الزمن اللازم للقراءة: 12 دقيقة
تغير المناخ ومصائد الأسماك في سوريا

أسماك "مهاجرة" في السواحل السورية... فرص اقتصادية وتحديات بيئية

تقرير
بقلم زينة شهلا
تغير المناخ ومصائد الأسماك في سوريا

تشهد السواحل السورية تغييرات بيئية واقتصادية ملحوظة بسبب وصول أنواع جديدة من الأسماك المهاجرة، ما يثير تساؤلات حول الفرص والتحديات التي ترافق هذه الظاهرة. يتابع الصيادون من اللاذقية، هذه التغيرات عن كثب، ملاحظين وجود أنواع جديدة بجانب التحولات في مواعيد ظهور الأنواع المعتادة. يعتقد الخبراء ان هذه الظواهر بسبب عوامل عدة منها التغيرات المناخية والصيد الجائر. تبذل جهود علمية ومجتمعية لفهم وإدارة هذه التحولات، مع التركيز على البحث والتوعية وتطوير قوانين الصيد وإنشاء محميات بحرية لحماية التنوع البيولوجي والحفاظ على موارد الثروة السمكية.

منذ عشر سنوات، يتابع الصياد سعيد عوض (50 عاماً)، وهو من سكان مدينة اللاذقية الساحلية السورية، تغيرات طرأت على أنواع الأسماك التي اعتاد صيدها، فتثير انتباهه أصناف جديدة لم يكن الصيادون معتادين عليها، وتؤرقه أحياناً تحوّلات في مواعيد ظهور أنواع أخرى، فيتساءل عن الأسباب ويحاول مع زملائه من الصيادين والهيئات المعنية معرفتها واستكشاف ما وراء الأمر من خبايا.

 

يقول: "أعرف هذا البحر منذ نعومة أظفاري، وأحفظ كل ما فيه من أسماك مع مواسم صيدها. منذ أكثر من عشرة أعوام، نلاحظ أكثر فأكثر أسماكاً جديدة بدأت تحل ضيوفاً على مياهنا، منها ما هو مفيد ويمكن أن نستثمره ليشكّل مصدر رزق إضافي لنا، ومنها ما علينا الحذر منه إذ نحتاج لاكتشاف مدى قابلية أن يكون قابلاً للتداول بين الناس كمصدر للغذاء". من هذه الأسماك كما يسرد عوض السلطاني والخليجي والسمنّيس والغزال وغيره.

 

يضيف الصياد بأنه يلاحظ أيضاً تغيّرات في مواعيد ظهور بعض الأسماك التي اعتادت أن تتخذ من مياه المتوسط مكاناً لهجرة موسمية قبل أو بعد تكاثرها، قادمة جنوباً من النيل والبحر الأحمر، وكذلك اختلافات في بعض خصائص البحر التي حفظها عن ظهر قلب، مثل عكارة أو نقاوة المياه، ومواعيد واتجاهات الرياح.

 

يعزو الصياد هذه الملاحظات، وهو ما تؤكده تقارير علمية عدة وكذلك آراء لخبراء وخبيرات في المنطقة، إلى انتقالٍ تدريجي لأنواع من الأسماك من البحر الأحمر والمحيط الهندي جنوباً إلى مختلف شواطئ البحر المتوسط شمالاً، وتقلبات في درجات الحرارة وأحوال الطقس مرتبطة بالتغيرات المناخية، ولا يغفل ذكر عوامل بشرية منها التلوث والصيد الجائر وغير القانوني، وهي بدورها ساهمت في قلة ظهور بعض أنواع الأسماك المحلية التي لطالما عاشت في مياه المتوسط، التي تعتبر من الأكثر تلوثاً على مستوى العالم.

 

وخلال السنوات الأخيرة، تحدثت بالفعل العديد من الأخبار والتقارير الإعلامية في سوريا ودول المتوسط عموماً، عن رصد أنواع جديدة "غازية" من الأسماك بشكل متكرر، بعضها ذات قيمة غذائية واقتصادية كبيرة، وأخرى قد تكون سامة وتسبب حالات وفاة أو أمراضاً خطيرة، أو تضر بالتنوع الحيوي وتغيّر النظام البيئي في البحر، إذ تشكل تهديداً لما فيه من أسماك محلية وتستوطن مكانها وتنافسها على الموارد.

 

وقد أشارت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو" في تقرير نشر عام 2022 إلى أن "مئات أنواع الأسماك وقناديل البحر والروبيان تغزو البحر الأبيض المتوسط، الذي يشهد عملية دخول الطابع الاستوائي مع ارتفاع درجات حرارة المياه ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تغير المناخ، كما انتقلت العديد من الأنواع عبر طرق النقل البحري في حين أدخلت أنواع أخرى عمداً لأغراض تربية الأحياء المائية، ويتوقّع في السنوات المقبلة أن يستمر عدد الأنواع غير الأصلية في الازدياد، ويمكن لها بمجرد أن تستقر، أن تتغلب على الأنواع المحلية وتغيّر النظم الإيكولوجية المحيطة بها، وهو ما قد يسبب تأثيرات اقتصادية محتملة على مصايد الأسماك والسياحة وعلى صحة الإنسان".

 

ما هي هذه الأسماك وما سبب ظهورها؟

 

من مقرّ عمله في مدينة طرطوس السورية الساحلية، وهي واحدة من مناطق الصيد الأساسية في سوريا إلى جانب مدن اللاذقية وبانياس وجبلة، يشرح لنا الدكتور علاء الشيخ أحمد مدير فرع المنطقة الساحلية في الهيئة العامة للثروة السمكية والأحياء المائية، عن الأسماك المهاجرة من البحر الأحمر جنوباً نحو المتوسط شمالاً، وخصوصاً الساحل الشرقي من فلسطين ولبنان وسوريا وحتى تركيا واليونان، وهو ما يطلق عليه علمياً مصطلح "الهجرة الليسبسيانية Lessepsian migration".

 

يشير الشيخ أحمد، وهو متخصص في بيولوجيا البحار والمصايد، إلى أن هذا المصطلح استخدم للمرة الأولى من قبل الباحث Por عام 1964 لوصف الظاهرة الجديدة حينها للانتقال الحيوي ذي الاتجاه الواحد من البحر الأحمر إلى المتوسط. وفي عام 1969 أعطى نفس الباحث مصطلح "المهاجر الليسبسياني" لكل نوع من أنواع البحر الأحمر استطاع الانتقال عبر قناة السويس والبقاء في الحوض الشرقي للمتوسط.

 

ويتابع مستشهداً بالعلماء الذين درسوا الظاهرة بأنها بدأت بانتقال بعض الحيوانات القاعية وأنواع العوالق النباتية والحيوانية، فسجّل أول نوع مهاجر ليسبسياني بعد 26 عاماً من إنشاء قناة السويس أي عام 1895، وكان عبارة عن نوع من الرخويات من صفيحيات الغلاصم Pinctada radiata، وفي عام 1902 لوحظ وصول أول نوع سمكي ليسبسياني إلى البحر المتوسط وهو Atherinomorus lacunosus ونوع آخر من الرخويات هو Chama broderipi.

 

لم تحدث تلك الهجرة عبر قناة السويس بشكل أساسي، والسبب في البداية حاجزان طبيعيان يمنعانها: الأول ارتفاع ملوحة المياه في البحيرات المرة في القناة، كما أن مياه النيل كانت تنحرف نحو اليمين عند وصولها إلى المتوسط بفعل قوة كوريوليس الطبيعية مشكلة حاجزاً، ولذلك تمت الهجرة بداية عبر مياه الصابورة التي تستخدمها السفن العابرة للمحيطات بغرض الاتزان ويمكن أن تفرغها عبر الضخ إلى البحر. تدريجياً انخفضت درجة ملوحة البحيرات وتقاربت مع مياه البحرين الأحمر والمتوسط، فازدادت وتيرة انتقال الأسماك عاماً بعد آخر، وبشكل أساسي نحو السواحل الشرقية للمتوسط ومن جنوبها حتى شمالها.

 

وإلى جانب توسعة قناة السويس عام 2015، يفيد الشيخ أحمد بأن ارتفاع درجات حرارة مياه المتوسط الناتجة عن التغيرات المناخية العالمية تساهم في زيادة هجرة الأسماك من الجنوب نحو الشمال. وتشير تقارير إلى أن هذا الارتفاع بلغ ما بين 0.6 إلى درجة مئوية واحدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ومن المتوقع أن يصل حتى 3.5 درجة حتى العام 2100، كما ازدادت نسبة ملوحة البحر من 37 إلى 39.5 بالألف مما سهّل انتقال أسماك مدارية وشبه مدارية.

 

"بذلك، صرنا نرى ونقرأ في العقود الأخيرة وبشكل متواتر أنباء ودراسات عن تسجيل أنواع جديدة من الأسماك على مختلف شواطئ المتوسط"، يضيف الخبير وينوّه إلى أن التسجيل مرتبط بعوامل منها القدرات الفنية والتقنية مثل الزوارق المجهزة بالمعدات العلمية المطلوبة، وزيادة اهتمام الباحثين وكذلك ملاحظات الصيادين وتعاونهم مع الهيئات المعنية لرصد الأنواع من أجل دراستها وتصنيفها بشكل علمي، وغيرها من العوامل.

 

وعن عملية الرصد يشرح بالتفصيل: "تبدأ من ملاحظة شخصية أثناء الجولات المتكررة التي يقوم بها فنيو الهيئة، أو من خلال الصيادين الذين يعثرون على أسماك لم يشاهدوها سابقاً، فيتواصلون معنا ونحن بدورنا من خلال الخبرة أو بالرجوع إلى أطالس السمك العالمية المتوفرة لدينا، نصنفها ونتأكد من اسمها ونوعها ومصدرها وفيما إذا كانت مسجلة من قبل في إحدى بلدان المتوسط، ومن ثم نعمل على تسجيل أول ظهور لها على السواحل السورية من خلال مقالات في مجلات علمية متخصصة خارجياً أو داخلياً، مع الانتباه لضرورة التمييز بين الأنواع المهاجرة والتي استوطنت مياهنا، وبين تلك التي تأتي إلى سواحلنا بشكل فصلي أو موسمي وتتحرك وفق التيارات والحرارة، كأنواع التونا التي تأتي للمياه السورية بين شهري حزيران/ يونيو وتشرين الأول/ أكتوبر من كل عام".

 

فعلياً ماذا حدث في البحر المتوسط؟

 

يواجه البحر المتوسط اليوم، والذي يعد نقطة ساخنة للتنوع الحيوي إذ يستضيف من 4% إلى 18% من جميع الأنواع البحرية المعروفة، تحديات مركبة وفق حديث الدكتورة ازدهار علي عمار، الأستاذة والباحثة في المعهد العالي للبحوث البحرية في جامعة تشرين بمدينة اللاذقية الساحلية السورية، فإلى جانب ملايين السكان والسياح سنوياً وكونه من أكثر طرق النقل البحري ازدحاماً في العالم، تأتي التغيرات المناخية والتلوث وأعمال الصيد الجائر لتشكّل ضغوطاً كبيرة على بيئته. وتقول: "لقد لوحظ تغير مناخ هذا البحر بحجم يفوق المتوسط العالمي، على الرغم من أن انبعاث الغازات الدفيئة في بلدانه تقع عند مستويات منخفضة نسبياً".

 

وتشير الخبيرة إلى أنه خلال العقود الماضية، ووفقاً لتقارير صادرة عن برنامج الأمم المتحدة البيئي، فإن الظروف المناخية باتت تميل لأن تكون أكثر دفئاً وجفافاً في منطقتنا، وقد ارتفع متوسط درجات الحرارة السنوية للهواء والبحر وأصبح أعلى بمقدار 1.4 درجة مئوية عما كان عليه خلال الفترة 1880-1899، كما ارتفع مستوى سطح البحر بقرابة 3 سنتيمترات في كل عقد خلال العقدين الأخيرين.

 

وتضيف عمار: "البحر المتوسط اليوم من أكثر المناطق استجابة لتغير المناخ، ويتوقع أن يكون التنوّع الحيوي هو الأكثر تأثّراً على مدى السنوات العشر القادمة، يليه تدهور الموائل وربما فقدانها. تنطوي التغييرات المتوقعة على مخاطر عديدة على النظم البيئية البحرية ورفاهية الإنسان، إذ تتأثر الكائنات البحرية من أي خلل في عمليات التغذية والنمو والتكاثر والمرتبطة بشكل أساسي بدرجات الحرارة، وكذلك أي تغيرات في موائلها الطبيعية وإمداداتها الغذائية المتاحة وخصوصاً العوالق النباتية، والتي يتوقع أن يحدث تراجع تدريجي في كمياتها في المياه الأكثر دفئاً، الأمر الذي سيؤدي عملياً إلى خفض كمية المغذيات المتاحة للحيوانات على طول السلسلة الغذائية".

 

أما بخصوص التغيرات في أنواع الأسماك ضمن المتوسط، تشرح الخبيرة بأنه وكردّ فعل على ارتفاع درجة حرارة الماء، تتحرك الأنواع السمكية في المياه الدافئة باتجاه المناطق القطبية، وتتراجع أرصدة تلك الأنواع التي تعيش في المناطق الباردة، وقد أظهرت الدراسات وجود ارتباط سلبي بين درجة الحرارة وتقلبات مصايد الأسماك في البحر المتوسط لحوالي 70% من الأنواع، كما انخفضت كميات الأسماك الأساسية في المتوسط وتحديداً سوريا منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وزادت في المقابل نسبة الأنواع الليسيبسيانية في المصيد السمكي مقابل الأسماك المحلية. وتضيف: "تشير آخر أبحاثنا إلى أن الأنواع الغازية سيطرت بنسبة قد تصل إلى 80% في بعض الموائل".

 

وتتخوّف المتحدثة من أن الأنواع الغريبة على اختلافها من حيوانات ونباتات، يمكن أن تكون لها تأثيرات سلبية خطيرة على التنوع الحيوي والنظم البيئية ومصايد الأسماك وصحة الإنسان والسياحة والتنمية الساحلية، وقد يكون من الصعب جداً والمكلف جداً التحكم بها. كما تشير إلى مخاوف من التأثيرات على الأمن الغذائي، إذ تساهم الأغذية المائية بنحو خمس البروتين الحيواني للإنسان، كما أن ملايين الأشخاص غالبيتهم في الدول النامية يعملون في قطاع مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية، وتوفر الأسماك مورداً رئيسياً في ميزان صادرات الكثير من الدول.

 

لكنها تشير أيضاً إلى أن هناك العديد من أنواع الأسماك والقشريات والمحاريات الغريبة قابلة للأكل ولها قيمة اقتصادية وتجارية عالية في مناطق انتشارها الأصلية، مثل أسماك الهامور والسلطاني والغريبة والقريدس والسرطان الأزرق ومحار اللؤلؤ والقنفذ الأسود طويل الأشواك وغيرها، ويمكن الترويج لها وبيعها في أسواق بيع السمك كخيارات بديلة عن الأنواع المحلية. وبالفعل تستهلك هذه الانواع من قبل السكان المحليين في العديد من دول البحر الأبيض المتوسط مثل لبنان وتركيا ومصر وتونس وحتى في سوريا.

 

الفرص والتحديات

 

"دخول هذه الأنواع إلى مياهنا فرصة كبيرة يمكننا الاستفادة منها، طبعاً بعد دراستها بالشكل العلمي الموثوق"، يخبرني عادل تنبوك وهو رئيس جمعية الصيادين في طرطوس، ونحن نتجول في أحد مزادات السمك في المدينة ويعرّفني للأنواع المعروضة للتداول صباح كل يوم، وكذلك في الميناء حيث تصطف قوارب الصيادين وتتجهز للإبحار والصيد. تضم المدينة اليوم أكثر من 110 قوارب يعمل عليها أكثر من ثلاثمائة صياد يشكّل البحر مصدر رزقهم الأول والأخير، أما المحافظة بمجملها ففيها قرابة مئتي قارب صيد.

 

ومع انخفاض كميات السمك المحلي في المتوسط عموماً نتيجة عوامل على رأسها ممارسات الصيد المدمرة كالديناميت والسموم والكهرباء والصيد الجائر وخلال مواسم التكاثر، فإن لهذه الفرصة كما يقول تنبوك فوائد للصيادين في عموم البلاد، فأنواع مثل السلطاني المهاجر أو الخليجي باتت موجودة بكثرة وبأحجام مقبولة، ومع كون طعمها مميزاً وتتكاثر بسرعة فهي باتت ذات قيمة اقتصادية عالية. وينوّه إلى أنه يتعاون على الدوام مع الصيادين والهيئة العامة للثروة السمكية وباقي الجهات المعنية العلمية للتعرف إلى الأنواع الغريبة وتوثيقها ودراستها بشكل تفصيلي.

 

لكن الصياد يطرح مجموعة من التحديات التي لا بد من الالتفات إليها، على رأسها الأسماك الضارة مثل النفيخة (البالون) التي تقضم وتؤذي أدوات الصيد من شباك وسنانير، كما أنها يمكن أن تسبب حالات تسمم تصل حد الموت. ومن الحلول المطروحة للتعامل مع هذه الأسماك وفق رأيه التشجيع على اصطيادها بأعداد كبيرة مقابل مكافآت معينة مما يقلل من تكاثرها السريع، وكذلك ضرورة التوعية بمخاطرها في الأسواق وبين المستهلكين، ونوه إلى عمل فريق فرع المنطقة الساحلية للهيئة العامة للثروة السمكية على توعية الصيادين بهذا الشأن ومنع وصول تلك الأسماك للأسواق حفاظاً على صحة المستهلكين.

 

وإلى جانب ذلك يتخوف رئيس جمعية الصيادين من مزاحمة الأنواع الجديدة للمحلية على موارد الغذاء وهو أمر يلاحظه بشكل شخصي عاماً بعد آخر: "صحيح أننا استفدنا من الأنواع المهاجرة لكن لم يعد هناك غذاء في البحر، فمثلاً حين تحدثنا عن السلطاني المهاجر لا ننسى بأن السلطاني المحلي باتت أعداده أقل بكثير، وفي حين كان من الممكن أن نصيد منه مئة كيلوغرام مثلاً اليوم بالكاد نجده، إذ يبدو بأن النوع الجديد بنيته أقوى وأكثر قدرة على التكاثر والاعتماد على نفسه وصارت أعداده مضاعفة عن المحلي. كذلك الأمر بالنسبة لسمكة البذرة الخليجية التي اعتدت صيدها منذ أكثر من عشر سنوات بحجم صغير، لكنني الأسبوع الفائت اصطدت فرخاً بقياس 15 سنتيمتراً وهو يعتبر كبيراً، ما يدل على أن هذه الأسماك تتكاثر وتكبر وباتت البيئة ملائمة لها".

 

هذه المخاوف يؤكدها الدكتور علاء الشيخ أحمد، إذ يشير إلى أن الأنواع المهاجرة حين تستقر تنافس المحلية دون شك على الغذاء من قشريات وطحالب وتقلل كمياته المتاحة، وباتت اليوم تشكل نحو 15 بالمئة من حجم المصيد الكلي للأسماك البحرية السورية، و25 بالمئة من العدد الكلي للأنواع البحرية السورية، وهو "رقم كبير" وفق تعبيره، ويحتاج الأمر كما يقول للمزيد من الدراسات المعمقة والمتابعة العلمية الدقيقة والرصد للأنواع المهاجرة والموائل، لمعرفة تأثير هذه الكائنات تماماً على بيئاتنا المحلية، "أما بالنسبة للأنواع الاقتصادية الليسبسيانية فعددها يقارب 20 نوعاً موثقاً حتى الآن، فهذه الهجرة لها جوانب مفيدة منها وصول أنواع اقتصادية لمياهنا البحرية ساهمت بزيادة الإنتاج السمكي البحري السوري"، يضيف.

 

التوعية والقوانين والمحميات

 

إلى جانب ما يطرحه عادل تنبوك من حلول، ينوّه الدكتور علاء الشيخ أحمد إلى أن الهيئة العامة للثروة السمكية تقوم بتنفيذ حملات واسعة النطاق وعقد ندوات وتوزيع منشورات تهدف إلى توعية الصيادين والمستهلكين والباعة بطرق التعامل مع مختلف أنواع الأسماك، سواء كنا نتحدث مثلاً عن طرق انتقال السموم باللمس أو الوخز أو الأكل من بعض الأنواع، أو ضرورة إتلاف أنواع مثل سمكة البالون السامة، والتخلص منها عند وجودها ضمن حصيلة الصيد وعدم إعادتها إلى المياه حية ومنع وصولها إلى أسواق السمك بشكل نهائي. ويتحدث عن نتائج مرضية لهذه الجهود مع تراجع ملحوظ لحالات الإصابة والتسمم.

 

ويشير إلى أن الهيئة تعمل على إجراء دراسات حديثة من أجل تعديل القرارات الناظمة للصيد بشكل دوري، لتتلاءم مع أنواع الأسماك المكتشفة وكيفية تنظيم مواعيد وطرق صيدها والتعامل معها والحفاظ على المخزون السمكي البحري وموائله.

 

بدورها تشير الدكتورة ازدهار عمار إلى أهمية تطبيق إجراءات الرقابة على عمليات النقل البحري وإفراغ مياه التوازن من السفن والتي يمكن أن تحمل مختلف الأنواع إلى مياهنا، وإزالة الأنواع الغازية من خلال تقنيات الصيد المختلفة والتنسيق مع الصيادين والمسؤولين في قطاع الموارد البحرية لإدارة وتطوير هذه التقنيات، وضرورة إشراك كل الأطراف من سلطات محلية ومدراء محميات وعلماء ومنظمات غير حكومية، مع أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه الباحثون في مجال البيئة البحرية وعلماء البحار لتوعية السكان بالمخاطر التي تحيق بالتنوع الحيوي البحري. وهنا تنوّه الخبيرة إلى خصوصية الوضع في سوريا التي تعاني من حرب وعقوبات اقتصادية تضاعف من أزماتها وتحد من إمكانياتها، ما يعني ضرورة تقديم الدعم اللازم للبلاد لمواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الكارثية الحالية والمستقبلية.

 

كما تتحدث عن أهمية الجهود البحثية للمحافظة على التنوع الحيوي البحري، ودعم قدرة النظام البيئي البحري على مواجهة تغيّر المناخ، وذلك من خلال أنشطة منها الحد من الصيد المفرط، والإبقاء على أعداد كافية من الأنواع التي تضمن استمرار التوازن البيئي، وإنشاء مناطق بحرية محمية توفر ملاذاً آمناً يسمح بتنامي أعداد الكائنات وبالتالي تجديد موارد البيئة البحرية.

 

وبالفعل، فإن الجهات المعنية في سوريا ومنها الجمعية السورية لحماية البيئة المائية تخطط لإنشاء محميات كهذه مخصصة للحفاظ على أنواع معينة من الأسماك المحلية خاصة تلك ذات الخصوبة القليلة، أما من المشاريع القائمة بالفعل على شاطئ المتوسط يمكننا أن نذكر محمية شاطئ صور الطبيعية في لبنان، وعبر تطبيق واتساب تحدثت مع مديرها الدكتور علي بدر الدين، ليخبرني عن تجربة فريدة تسعى لحماية مجموعة من الموارد الزراعية والبحرية والبرية في المنطقة.

 

وتهتم المحمية بشكل خاص كما يشير بدر الدين وهو باحث بعلوم البحار، بالأنواع المحلية من الأسماك، بغرض أن تنمو وتصل إلى حجمها الطبيعي وتتكاثر بالوتيرة الطبيعية بأكبر قدر ممكن، ضمن نظام بيئي مريح بعيداً عن أي ضغوطات يمكن أن تواجهها خارج إطار المحمية، وتالياً يحصل عليها الصيادون ويستفيدون منها اقتصادياً واجتماعياً. أما بالنسبة للأنواع الغازية، فتشجع المحمية على اصطيادها في حال كانت لها قيمة اقتصادية، أو على القضاء عليها.

 

وهنا يعمل فريق المحمية على نشر فكرة العلوم التشاركية مع المجتمع المحلي من صيادين وغواصين، فيشجعون على الإبلاغ عن الأنواع الغريبة وتوثيقها وتصويرها بالتعاون مع الباحثين، بهدف أخذ الاحتياطات اللازمة سواء منع تكاثرها أو معرفة محاذير صيدها في حال كانت ضارة مثل سمكة النفيخة، أو معرفة قيمتها الاقتصادية المحتملة مثل سمكة المواسطة.

 

"الكائنات الغازية والمهاجرة من أسماك قشريات وصدف وغيرها ستستمر في القدوم لبحرنا ما دامت هناك حركة كثيفة للسفن وكذلك ارتفاع لدرجات الحرارة ونسبة الملوحة وثاني أوكسيد الكربون في المياه. نحن نعتبرها بمثابة تلوث بيئي يؤثر على النظام البحري سلباً حتى لو كانت لها قيمة اقتصادية، لكننا نسعى للتعامل معها بالطريقة الأمثل، فهذه هي الطبيعة في نهاية المطاف"، يقول مضيفاً: "لا تعني فكرة المحمية أن نمنع الأنواع الغازية، فنحن نحمي كل الأنواع، لكننا نشجع الأنواع المحلية كي تنمو وتسيطر من جديد على مساحتها الخاصة".

عن: 
زينة شهلا